كتاب الطفل بين الوراثة والتربية القسم الثاني ص 120 ـ ص 139


يعود إلى أن منظارهم الذي ينظرون به الى سلوك أطفال الآخرين ناصع ومتقن ، بينما يقف الحب حاجزاً بين منظار عقلهم ورؤية عيوب أطفالهم.
إن أفضل الآباء والأمهات هم الذين يبعدون حب أطفالهم عن حساب التربية ، يحبونهم حباً خالصاً ، ولكنهم في الوقت نفسه ينظرون بعين البصيرة والدقة إلى عيوبهم ويحاولون بصورة جدية اقتلاعها وإزالتها وإحلال الفضائل والمثل محلها. فإذا كان الأطفال يملكون صفات وراثية وفطرية فاضلة وتوجد في أعماقهم مشاعر وأحاسيس طيبة فإن تربيتهم سهلة وبالامكان أن يستوعبوا الفضائل والكمالات والمثل بسرعة فينشأوا أفراداً بارزين. أما إذا كانوا متطبعين على صفات وراثية بذيئة وكان بناؤهم العاطفي مشوباً بالرذائل والأحاسيس الممقوتة فإنهم بحاجة الى رعاية أدق وعناية أكثر. يجب على الوالدين حينئذ أن يتخذا الاساليب التربوية المفضلة في حقهم. فيعملان على دحر المشاعر الشاذة والصفات البذيئة في الطفل من جهة ، ويعوّدانه على الفضائل والملكات الحميدة من جهة أخرى حتى تنشأ فيه من التكرار والاستمرارية طبيعة ثانوية تستقر في روحه وضميره ، وتختفي عواطفه الفطرية غير المحبذة بالتدريج.
لا شك في أن التنمية السليمة لعواطف الطفل وتوجيهها الوجهة الصحيحة تشكل أحد الفصول التربوية الأساسية ، وتعتبر من الواجبات المهمة للوالدين. فالطفل الذي ليس مجنوناً بالولادة ولا توجد اختلالات أساسية في مخه يكون قابلاً للتربية وبالإمكان توجيه عواطفه إلى طريق الفضيلة وجعله يتمتع بالملكات الحميدة والسجايا الطيبة.

مناغاة الطفل :

من أفضل وسائل تنمية عواطف الطفل مناغاته ومعاملته بالرفق والحنان. فكما أن الطفل يحتاج الى الطعام والماء والهواء والنونم بفطرته ، كذلك يحتاج الى العطف والحنان. فالعطف أطيب الأطعمة النفسية للطفل إنه يتلذذ من تقبيله وشمّه ومناغاته واحتضانه ورعاية عواطفه ويُسّر لذلك كثيراً.
الحب أساس البناء الخلقي والفضائل. إن حب الله للناس ، وحب الناس لله ، حب النبي والإمام للأمة ، وحب الأمة للنبي والإمام ، حب المسلمين تجاه بعضهم البعض أساس الدين الإسلامي. وقد ورد التأكيد على الحب في القرآن الكريم


 

( 121 )


والروايات بدرجة كبيرة ، حتى أن الإمام الصادق عليه السلام يقول : « هل الدين إلا الحب » ؟ (1).
إن جميع الجهود التي بذلها الأنبياء في تبليغ رسالاتهم إلى الناس ، وجميع التضحيات التي تحملها المجاهدون في ميادين الحرب ، وجميع العبادات والمساعدات التي يقوم بها المحسنون تنبع من ينبوع واحد ألا هو الحب... حب الله... حب دين الله.
الحب هو الذي يحيل المرارة الى حلاوة.
والحب هو الذي يهدىء الآلام.
والحب هو الذي يحوّل الأشواك إلى أزهار.
والحب هو الذي يجعل من السجن روضة.
والحب هو الذي يحوّل النار نوراً.
والحب هو الذي يزيل المآسي.
والحب هو الذي يجعل من الصفعة دغدغة.
والحب هو الذي يحيي الموتى.
والحب هو الذي يجعل الملك عبداً (2).

العطف على الصغير :

إن الطفل الذي يتلقى مقداراً كافياً من العطف والحنان من أبويه ، ويروى من ينبوع الحب يملك روحاً غضة ونشطة. انه لا يحس بالحرمان في باطنه ولا يصاب بالعقد النفسية ، تتفتح أزاهير الفضائل في قلبه بسهولة وإذا لم تعتوره العراقيل في أثناء طريقه فإنه ينشأ إنساناً عطوفاً وفاضلاً يكنّ الخير والصلاح للجميع
____________
( 1 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 23| 122.
( 2 ) وردت في الأصل الفارسي تسعة أبيات من العشر ترجمتها نثراً ولكن أبقيت كلا منها في سطر مستقل حفاظاً على المعنى الإستقلالي لكل بيت.


 

( 122 )


لقد ورد التأكيد على العطف على الصغار في الأحاديث بصورة كثيرة وها نحن نقرأ بعضاً منها :
1 ـ عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله ، في خطبة له حول واجبات المسلمين في شهر رمضان : « وقّروا كباركم وارحموا صغاركم » (1).
2 ـ وقال صلّى الله عليه وآله : « ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقّر كبيرنا » (2).
3 ـ في ما أوصى به امير المؤمنين عليه السلام عند وفاته : « وارحم من أهلك الصغير ووقر الكبير » (3).
4 ـ عن علي عليه السلام : « لِيتأسَّ صغيركم بكبيركم ، وليرأفْ كبيركم بصغيركم ، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية » (4).
5 ـ وعن الإمام الصادق عليه السلام : « إن الله عز وجل لَيرحُم الرجل لشدة حبه لولده » (5).
6 ـ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « أحبّوا الصبيان وارحموهم » (6).
7 ـ وجاء بيان صفاته ( ص ) : « وكان النبي إذا أصبح مسح على رؤوس ولده » (7).

تقبيل الطفل :

1 ـ عن الإمام الصادق عليه السلام قال : « قال رسول الله ( ص ) : من قبل ولده
____________
( 1 ) عيون أخبار الرضا : 163.
( 2 ) مجموعة ورام ج1|134.
( 3 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ح16|154.
( 4 ) نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص531.
( 5 ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص 113.
( 6 ) وسائل الشيعة للحر العاملي ح5|126.
( 7 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج23|114.


 

( 123 )


كتب الله عز وجل له حسنة ، ومن فرّحه فرّحه الله يوم القيامة » (1).
2 ـ وقال عليه السلام : « اكثروا من قُبلة أولادكم فإن لكم بكل قبلة درجة » (2).
3 ـ وفي الحديث : « قبّل رسول الله الحسن والحسين. فقال الأقرع بن حابس : إنّ لي عشرة من الأولاد ما قبّلت واحداً منهم. فقال : ما عليّ أن نزع الله الرحمة منك » (2).
4 ـ قال أمير المؤمنين عليه السلام : « قُبلة الولد رحمة ، وقُبلة المرأة شهوة ، وقُبلة الوالدين عبادة ، وقُبلة الرجل أخاه دين » (4).

العطف في ظل الإيمان :

ورد في الحديث أن النبي صلّى الله عليه وآله كان يصلي يوماً في فئة ، والحسين صغير بالقرب منه. فكان النبي إذا سجد جاء الحسين ( ع ) فركب ظهره ثم حرّك رجليه فقال : حَلْ ، حَلْ !
فإذا أراد رسول الله ( ص ) أن يرفع رأسه أخذه فوضعه إلى جانبه. فإذا سجد عاد على ظهره ، وقال : حَل° ، حَل° ! فلم يزل يفعل ذلك حتى فرغ النبي من صلاته.
فقال يهودي : يا محمد إنكم لتفعلون بالصبيان شيئاً ما نفعله نحن.
فقال النبي ( ص ) : أما لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله لرحمتم الصبيان.
قال : فإني أؤمن بالله وبرسوله. فأسلم لمّا رأى كرمه مع عظم قدره (5).
يستفاد من هذا الحديث والأحاديث المتقدمة عليه مدى أهمية الحب والعطف في أسلوب تربية الطفل. فعلى المسلمين جميعاً أن يترحموا على جميع الأطفال بصورة عامة ،
____________
( 1 ) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6|49.
( 2 ) وسائل الشيعة للحر العاملي ج5|126.
( 3 ) مكارم الأخلاق للطبرسي : 113.
( 4 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ح23|113.
( 5 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ح10|83.


 

( 124 )


وعلى أطفالهم بصورة خاصة. فالحياة السليمة والطبيعية عبارة عن الاتباع الصحيح لقوانين الفطرة. ومن يتخلف عن القوانين الفطرية التي هي سنة الله عز وجل في هذا الكون يلاق جزاءه الصارم بلا شك. إن الحاجة الى الطعام أمر فطري للإنسان والامتناع عن تلبية هذه الحاجة الفطرية يؤدي إلى الضعف والعجز وفي صورة الاستمرار على ذلك يؤدي إلى الموت. والحاجة إلى النوم فطرية للإنسان أيضاً ، وان كل محاولة للاستغناء عنها تتضمن خطر الإنهيار الصحيح وإذا استمر ذلك كان الموت بالمرصاد. الميل الجنسي أمر طبيعي بالنسبة الى الإنسان السليم وكبت هذا الميل يستتبع مشاكل نفسية متعددة وربما أدّى إلى الجنون.

الحاجة الى العطف فطرية :

من الميول الفطرية للإنسان ، والتي تظهر في فترة الطفولة الحاجة إلى العطف والحنان. إن الاستجابة لهذا الميل الطبيعي وإشباع هذه الحاجة جزء من المنهاج الفطري. إذا نال الطفل حظاً وافراً من العطف والحنان في أيام طفولته كان ذا روح مطمئنة ونفس وديعة وكان سلوكه طبيعياً طيلة أدوار حياته. أما الأطفال المحرومون من الحب العائلي وعطف الوالدين فإنهم يملكون أرواحاً ملؤها اليأس والتشاؤم ويكونون على شفا جرف من الانحراف.

« الأسرة التي لا يشع فيها نور العطف ، والبيت الذي يُحرم من روح التفاهم والتسامح يساعدنا على البحث عن كثير من الآلام الروحية والاضرار الإجتماعية. عندئد يجب أن يبذل الإهتمام الكافي لحماية القلوب المندحرة ومعالجة الحرمان الذي أصاب اصحابها بصورة معقولة ».
« هؤلاء ينشأون على خواطر مرة علقت بأذهانهم من سلوك الوالدين تجاههم منذ الطفولة ، وفي الغالب يكونون معرضين للوقع في شَرَك اليأس ، والتشاؤم ، وعدم الإنسجام ، والنفور ، والإنتحار ، والإجرام ، والأمراض الروحية والعصبية » (1).

____________
( 1 ) روح بشر ص 103.


 

( 125 )


حرمان اليتيم من العطف :

إن الأطفال الأيتام الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم مصابون بمشكلتين : الأولى هي العوز المادي ، والثانية هي الحرمان من العطف. إن الاحتياجات المادية لليتيم تشبع في جميع البلدان بنسب مختلفة ، ولكن قلما يصادف أن يعيش اليتيم في أسرة ينعم فيها ـ بالإضافة إلى إشباع الحاجات المادية ـ بالعطف والحنان ، بحيث يجد رب الأسرة نفسه بمنزلة الأب لذلك الطفل فيراعي عواطفه ويحن عليه كما يحن على أولاده.
تهتم المؤسسات الخيرية في الدول المتمدنة بضمان حياة الأيتام ، وتقوم باعداد وسائل الثقافة والتعليم لهم بالإضافة إلى ضمان الطعام والكساء والمأوى.. لكن يبقى هؤلاء محرومين من حنان الوالدين ، هذا الحرمان يجر وراءة سلسلة من الآثار والنتائج السيئة التي تظهر تدريجياً في أقوال اليتيم وأفعاله عندما يشب.

« يضمن اليتيم نتائج وخيمة للفرد والمجتمع ، سواء كان حاصلاً بفقد الأب أو موت الأم. لقد لاحظ علماء النفس والتربية بصورة عامة في التحقيقات التي أجروها في هذا المجال أن اليتم أحد العوامل المهمة للتشرد والتخلف العلمي والاجتماعي ، والاجرام والفوضى ».
« يذكر أحد علماء النفس الألمان ضمن بحوثه التي أجراها على أثر اليتم في التحصيل العلمي أن من بين التلاميذ الراسبين في المدارس 44% محرومين من الآباء ، و 33% محرومين من الامهات ، أي 77% من الراسبين كانوا ايتاماً. وهكذا فاإن تحقيقاً مشابهاً أجري أمريكا حول مشاكل التربية فوجد أن 25% من الأطفال المعقدين في إحدى مدارس نيويورك كانوا أيتاماً. كما أن تحقيقاً آخر حول الأطفال والراشدين المجرمين أجري في ألمانيا فكانت النتيجة أن من بين 2704 شاباً مجرماً كان 1171 شاب منهم ، وهذه النسبة تعني اكثر من 43% من المجموع. لقد أجري تحقيق آخر في امريكا حول المساجين فوجد أن 60% من الذين أجري التحقيق معهم كانوا يرجعون إلى أسر منهارة بموت الأب أو الأم كما توصل عالم الماني إلى نتيجة خطيرة وهي أن من بين

 

( 126 )

 

الفتيات اللاتي ارتكبن السرقة 38% يتيمات ، ومن بين الفتيات اللاتي أنشأن علاقات جنسية غير مشروعة أو خضعن للاعتداء الجنسي 40% منهم يتيمات. وفي إحدى التحقيقات الاجتماعية والنفسية التي أجريت في الولايات المتحدة نجد أن 70% من الفتيات التي يقضين حياتهن في مدارس التأديب التابعة لمحكمة الأحداث كن يتيمات إمّا يتماً منفرداً أو مزدوجاً ، أي فاقدات للأب أو الأم فقط ، أو فاقدات لهما معاً » (1).


أمارة الإنسانية :

إن حب الناس والعطف عليهم أبرز سمات العاطفة الإنسانية. من الضروري أن يتربى كل درد من أي أمة كان والى أعي عنصر انتمى على حب الخير للجميع. فحب الناس أحد الأركان الأساسية للسلام العالمي والسعادة البشرية ، وهو بعد رمز للتكامل الروحي الذي يحرزه الفرد.
« عن أبي الحسن عليه السلام قال : إن أهل الأرض لمرحومون ما تحابّوا ، وأدّوا الأمانة ، وعملوا الحقّ » (2).
يجب أن يتلقى الفرد درس حب الخير للجميع منذ الصغر. إن الوالدين اللذين يبذلان العطف والحنان لطفلهما يستطيعان أن يفهماه كيف يحب الآخرين. أما الطفل الذي لم ير عطفاً من أحد أبداً ولم يذق طعم الحنان فإنه لا يفهم معنى للحب ولا يدرك هذه الحقيقة الروحية الطيبة أصلاً. إنه وجد في الحياة برودة وجفاء ، وتزمتاً وعقاباً... ولذلك فهو يسلك مع الناس بتلك الصورة أيضاً ، ولذلك فلا يجب أن ننتظر من فرد كهذا أن يكون محباً للناس.
إن العطف والحنان في الأسرة أساس التنمية الصحيحة لعواطف الطفل. وفي ظل المشاعر والعواطف فقط يمكن هدايته الى الطريق المستقيم والحياة السعيدة ، أما الطفل
____________
( 1 ) روح بشر : 93.
( 2 ) مجموعة ورام ج1|12.


 

( 127 )


الذي حُرم من العطف والحنان فإن مشاعرة تسير نحو طريق منحرف فيصاب بالقسوة والشدة ، ويشعر بالتشاؤم والإشياء ، وتشب في نفسه نيران الحقد والبغضاء ، وعشرات من الصفات الذميمة الأخرى.


 

( 128 )

 


 

( 129 )

 

المحاضرة الحادية والعشرون

تنمية الإيمان في نفس الطفل

قال الله تعالى في كتابه العظيم : ( ... الصّابرين والصّادقين والقانتين والمُنفقين والمُستغفرين بالأسحار ) (1).
اليوم هو الحادي والعشرون من شهر رمضان ، ويصادف استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، نعزّي المسلمين كافة بهذه الفاجعة العظمى والمصيبة الفادحة.
لقد ذكرنا في المحاضرة السابقة العقل والعواطف طاقتان إلهيتان عظيمتان ، وثروتان فطريتان. ويجب الإستفاده من هاتين الطاقتين معاً في سبيل تحقيق السعادة. وكما أن العلم والعدالة ، والمنطق والاستدلال ، والتفكير والتعقل ، ضروري للتكامل البشري ، كذلك الاخلاق والفضيلة ، الحب والعطف ، فاإنه لا يستغنى عنها. وهكذا انتهينا الى أن الوالدين مسؤولان عن رعاية عواطف الطفل وعقله في سبيل تربته ، وعليهما أن يهتما بتنمية كل منهما بأسلوب دقيق.

تنمية الإيمان :

من واجبات الوالدين في القيام بالمهمة التربوية تنمية المشاعر الايمانية والخلقية في نفس الطفل. يجب على الآباء والأمهات المسلمين ـ حسبما تصرّح به الأحاديث ـ أن يربّوا اطفالهم على الإيمان ، ويوقظوا فيهم فطرة عبادة الله بواسطة العبادات التمرينية ، فيشجعوهم على إتباع الأوامر الإلهية ، والإرتباط بالخالق العظيم.
____________
( 1 ) سورة آل عمران | 12.


 

( 130 )


الحقائق غير القابلة للقياس :

ينبغي أن نقدم أمام البحث تمهيداً بيسّر لنا الدخول إلى صلب الموضوع. إن الحقائق التي توجد في العالم يمكن تقسيمها تقسيماً علمياً الى طائفتين : الطائفة الأولى ـ وتشمل الموجودات التي استطاع العلماء من قياسها بالوسائل والآلات الدقيقة والقوية في ظل التقدم العلمي الذي يحرزه الإنسان يوماً بعد يوم ، وإخراج نتائج تلك الموازنات بصورة أرقام مضبوطة أو تقريبية. والطائفة الثانية ـ تشمل الحقائق الموجودة الأخرى التي لا يملك العلم البشري مقدرة علمية تجريبية عليها ، فهي لا تخضع للقياس ، ولا يستطيع العلماء من مقايستها بواسطة مقاييس مضبوطة. أن عدد الحقائق التي لا تقبل القياس العلمي في جميع الموجودات بصورة عامة وفي تكوين الإنسان بصورة خاصة كبيرة جداً ويرى العلماء والباحثون ان تلك الحقائق أهم بكثير من الحقائق القابلة للقياس.

« ... ولقد جلب الكم ، المعبر عنه باللغة الحسابية ، العلم للانسانية في حين أهمل النوع.. ولقد كان تجريد الأشياء من صفاتها الأولية أمراً مشروعاً ، ولكن التغاضي عن الصفات الثانوية لم يكن كذلك.. فالأشياء غير القابلة للقياس في الإنسان أكثر أهمية من تلك التي يمكن قياسها.. فوجود التفكير هام جداً مثل التعادل الطبيعي ـ الكيميائي لمصل الدم » (1).

فالسل والسرطان مثلا مرضان خطيران ، وداءان وبيلان للانسان. كل واحد منهما يكفي لاضعاف المصاب به ، ونحول جسده ، وتدمير حياته. لقد اكتشف الأطباء جميع الأعراض المميزة لهذين المرضين بالأدوات والوسائل العلمية ، وتوصلوا الى طرق الوقاية منهما في المختبرات بفضل الأجهزة الدقيقة ، فاستطاعوا من معرفة انتشار المرض ، والظروف المساعدة لذلك ، والخسائر التي يتضمنها ، وكلّ ما يرتبط به بصورة مضبوطة.
والحسد أيضاً داء خطير كالسل والسرطان ، وربما كان الضرر الناشيء منه أشد من الأضرار الناشئة من ذينك المرضين بكثير ، إذ أنه يترك آثاراً سيئة على جسد المصاب به
____________
( 1 ) الإنسان ذلك المجهول ص 214.


 

( 131 )


وروحه. إنه يفسد العقل ، ويقتل الإنسانية ، ويبعث الانسان على الاجرام والخيانة ، يذهب بالصفاء والنشاط ، ويسلب الراحة والنوم ، ويؤدي الى تسمم الجسم في نهاية المطاف فيدمر حياة صاحبه. هذا المرض ليس قابلا للفحص والقياس في المختبرات ، إنه لا يملك ميكروباً خاصاً ، ولا يمكن مشاهدته تحت المجاهر القوية. الحسد عبارة عن حالة نفسية ، وإحساس باطني... إنه حقيقة لا تقبل الانكار ، تتضمن عشرات العوارض على جسد المصاب به وروحه... ومع ذلك فلا يمكن قياس ذلك بواسطة الآلات والأجهزة العلمية.
إن حوادث الاخفاق والفشل ، والانهيار الروحي ، والعقد النفسية ، ومظاهر القلق والإضطراب تضعف الجسم كمرض الملاريا ، وتتضمن عشرات العوارض المختلفة. إن مرض الملاريا يمكن فحصه ومعرفته بواسطة الاجهزة العلمية ، أما الإخفافات والعقد النفسية فإنها ليست قابلة للفحص بالوسائل العلمية المادية.

الجماليات :

تصوروا غصناً جميلاً من الورد يتباهى في زاوية الحديقة ، ويُعجب الناظرين ، ويبعث اللذّة والسرور في نفوسهم من مشاهدته ، ويبهرهم جماله ولطافته. للوردة حساب خاص ولجمالها حساب آخر. الوردة من الموضوعات العلمية وجمالها من المسائل العاطفية. يستطيع العلماء المتخصصون من قياس الوردة ، ومعرفة مكوناتها وعناصرها الطبيعية ، وإعطاء أرقام صحيحة ومضبوطة عنها. أما جمال الوردة فلا يخضع للقياس. تلك الحقيقة المدهشة ، والجاذبية الخاصة التي تجمع الناس حول الوردة وتبعثهم على استلطافها والتلذذ برؤيتها لا يمكن أن تخضع لفحوص العلماء في المختبرات. الجمال تفهمه عواطف الإنسان ، وتحسّه مشاعر بني البشر ، فلا يدركه العقل أو العلم ، ولا الفحص والاختبار. إن المسائل العلمية هي التي تكون قابلة للفحص والقياس ، وعواطف الإنسان ومشاعره تخرج من ميدان العلوم التجريبية ، ولا يمكن للاجهزة والوسائل العلمية ضبطها.
ومقال آخر نلاحظه في لوحة رسام ماهر أجادت يد الفن صنعها ورسمها... إنها تُقد ، ر بآلاف الدنانير ، وربما تصرف آلاف الساعات من العمر الثمين للأشخاص في مشاهدة تلك اللوحة والاستمتاع بجمالها. إن ما يخضع للقياس والنظر العلمي من هذه


 

( 132 )


اللوحة لا يزيد على 10 غرامات من اللون الأحمر ، و 100 غرام من اللون الأخضر ، و50 غرام من اللون الأزرق ممزوجة حسب مقادير معينة ، وشيء من القماش والخشب... وكلّ ذلك لا يساوي اكثر من بضعة دراهم ، غير أن في هذه اللوحة الثمينة عنصراً آخر يجعل ثمنها يرتفع إلى آلاف الدنانير ، هذا العنصر ليس علمياً أو عقلياً وليس عنصراً كيمياوياً أو مختبرياً ، انه لا يقاس بالأجهزة والأدوات العلمية... إنه عنصر الجمال واللطافة ، وهذا يجب أن يعرض في سوق الذوق ، والطلب عليه يتمثل في العواطف والمشاعر. اإن العناصر الكيمياوية والمواد الطبيعية للوحة قابلة للقياس والحساب العلمي ، أما جمالها فلا يقاس في المختبرات.
إن حقيقة الإيمان الساطعة ، والأخلاق الفاضلة كالايثار ، والشجاعة ، والكرم ، والعفة ، والرأفة ، والمحبة وأمثالها ، وكذلك السيئات الخلقية كالحسد ، والتكبر ، والحقد ، والجشع ونظائرها من المسائل النفسية ، وترتبط بمشاعر الناس وعواطفهم. إن السجايا الفاضلة والبذيئة حقائق تترك آثارها الطبيبة او الخبيثة على روح الإنسان وجسده ومع ذلك فهي غير قابلة للقياس بالوسائل المادية والاجهزة العلمية. إن وجود حقيقةٍ ما يختلف عن إمكان قياسها ، يجب أن ننظر إلى هذه الحقائق بعين البصيرة ونعترف بوجودها وإن عجزت الوسائل العلمية عن قياسها وضبطها.

« تبدو الوسيلة العلمية للنظرة الأولى غير قابلة للتطبيق على تحليل جميع وجوه نشاطنا ، ومن الواضع أننا نحن المراقبين غير قادرين على تتبع الشخصية البشرية في كل منطقة تمتد إليها ، لأن فنوننا لا تفهم الأشياء التي لا أبعاد لها ولا وزن ، وإنما هي تصل فقط للمناطق التي تقع في الاتساع والزمن... إنها غير قادرة على قياس الغرور والحقد والحب والجمال أو احلام العالم وإلهام الشاعر ، ولكنها تسجل بسهولة النواحي الفسيولوجية النتائج المادية لهذه الحالات النفسانية.. ان النشاط العقلي والروحي يعبران عن نفسيهما بتصرف معين ، أو عمل معين ، أو موقف معين ، نحو إخواننا في البشرية حينما يلعبان دوراً هاماً في حياتنا... ولكن من المحقق أن إتسام الأشياء بالمراوغة ليس معناه عدم وجودها » (1) .

____________
( 1 ) الإنسان ذلك المجهول : 41.


 

( 133 )

 

« ليس من الضروري أن تكون الحقيقة واضحة بسيطة. بل انه ليس من المحقق أن نكون دائماً غير قادرين على فهمها. وعلاوة على ذلك فإنها تفترض آراء مختلفة لا حدود لها.. إن حالة الشعور ، وعظمة الكتف ، والجرح ، هي أيضاً أشياء حقيقية. كما أن الظاهرة لا تدين بأهميتها إلى سهولة تطبيق الفنون العملية حين دراستها. وإنما يجب أن ترى وهي تؤدي وظيفتها ، لا بالنسبة للمراقب ووسائله وإنما بالنسبة للكائن الحي. فحزن الأم التي فقدت طفلها ، وجزع النفس الحائرة في ( الليل البهيم ) وعذاب مريض السرطان ، كل أولئك حقائق واضحة على الرغم من أنها غير قابلة للقياس » (1).


الانتصارات العلمية :

يتميز عصرنا هذا بالإكتشافات العلمية الدقيقة ، والتوصل الى رفع الستار عن الأسرار الكونية المودعة في الطبيعة. فقد فحص العلماء الذرات الصغيرة الأرضية ، والاجرام السماوية العظيمة ، ووقفوا على حلّ كثير من الرموز التي كانت مجهولة لدى السابقين. في المدنية العصرية خرج العلم من مرحلة التصور والتخيل إلى مرحلة التجربة والحسن ، وأخذت المختبرات العلمية تجيب عن مواليد الطبيعة بلغة الأرقام المضبوطة.
لقد أحدث العلم الحديث انقلاباً عظيماً في جميع شؤون الحياة وأرسى أسس المدنية المعاصرة. فاستطاع الإنسان أن يتغلب بسلاح العلم على الطبيعة ويكشف النقاب عن المجهولات واحدة تلو الاخرى ، ويطلع على زوايا الطبيعة المظلمة وأسرارها تدريجياً. لقد عرف الانسان بسائط هذا العالم ومركباته وعن طريق معرفة العلل والمعلولات استكشف دور كل منها في العالم الحي والميت... لقد عبر الحدود المحرمة للذرة ، وفجّر نواتها ، واستغل طاقتها الهائلة... وتغلب على مدار جاذبية الأرض وقذد بصواريخه الى خارج ذلك المدار. انه يفكر في تسخير الأجرام السماوية ، ويأمل في أن يأتي اليوم الذي يجد نفسه فيه مسيطراً علىالكرات الفلكية بقوة العلم.
____________
( 1 ) الإنسان ذلك المجهول : 39.


 

( 134 )


هذه الانتصارات جميعها ، استطاع الإنسان من إحرازها عن طريق العلم ، العلم المستند الى التجربة ، العلم المحسوس ، العلم المختبري ، العلم الذي يستند الى المحاسبة والقياس. لقد سيطرت العلوم التجريبية ـ بفضل التقدم الذي أحرزته ـ على أفكار الناس وعقولهم ، ودعتهم الى إنشاء الجامعات على أساس هذه العلوم... وشيئاً فشيئاً قصرت عقول الناس على الحقائق القابلة للقياس ، وتُركت الحقائق غير القابلة للقياس بيد النسيان والاهمال. لقد سيطرت العلوم التجريبية على عقول بعض البسطاء وغرّتهم الى درجة أنهم أنكروا جميع الحقائق التي لا تخضع للحسّ ، فأنكروا وجود الله ، وسخروا من الإيمان به وبالأنبياء ، وزهدوا بأمر التكامل الروحي والتعالي المعنوي ، وهذا هو نقص كبير في المدينة المعاصرة.

قصور العلم :

لقد اعترف مسؤسسو المدنية الحديثة بصورة صريحة بأن المعلومات البشرية في هذا العالم الفسيخ ضئيلة ومحدودة جداً. وإن العلماء المعاصرين يذعنون الى قصور العلم عن معرفة ملايين الحقائق الخفية والمودعة في وجود الإنسان والكون.

« يقول أديسون : إن من بين 1% من مجموع الحقائق لا تعرف سوى جزء من المليون جزء منها. وأما نيوتن فقد قال : ان العلم العام يشبه خليجاً لم ألتقط أنا وزملائي سوى بعض الحصى الظريفة من ساحله المترامي » (1).

ولو فرضنا ـ جدلاً ـ أن الإنسان استطاع في يوم ما أن يدرك بفضل التقدم العلمي الهائل جميع الحقائق العقلائية التي تتصل به وبالكون الفسيح ، وتمكن من إخضاعها لمقاييس ثابتة ، فيجب أن نقول أنه أدرك جانباً واحداً من حقائق الكون والإنسان ولا يزال يجهل كل شيء عن الجانب الآخر ، لأن الحقائق لا تنحصر في المسائل العقلائية ، ولا يمكن معرفة جميع الأشياء بالاستدلال العقلي ، والمنطق العلمي. إن المسائل العاطفية والحقائق غير العقلائية تشكل ركيزة مهمة من كيان الإنسان ، ولا طريق للعقل
____________
( 1 ) راه ورسم زندكي ص 101.


 

( 135 )


والمحاسبات العلمية اليها. وعلى الرجال المثقفين والواعين أن يخلصوا أنفسهم من أسر الغرور العلمي إذا أرادوا أن يدركوا الحقيقة كما هي ، وأن يعيروا أهمية تذكر للحقائق الاشراقية والواقعيات النفسية غير القابلة للقياس إلي جانب اهتمامهم بالحقائق العلمية والقياسية حتى يستفيدوا الفائدة القصوى من هاتين الطاقتين العظيمتين في سبيل تحقيق التكامل الفردي والإجتماعي.

« في حياة العلماء والأبطال والعظماء صورة لا تقبل النفاذ من الطاقة المعنوية. هؤلاء الأفراد يشبهون القمم العالية وسط الوديان ، وهم يرشدوننا إلى المستوى الذي نستطيع بلوغه من التكامل ، ويشيرون إلى عظمة الهدف الذي يرغب الشعور الإنساني في تحقيقه. هؤلاء فقط يستطيعون أن يعدّوا لنا الغداء المعنوي الذي نحتاجه لحياتنا الباطنية »
« توجد في النفس الانسانية عوامل لا يمكن وصفها بعبارات وألفاظ ، وهي عبارة عن الاشراق والميول الغريزية ، والإحساس المتيافيزيقي. إن المقدرة الفردية والوطنية قد تنبع من هذه الثروات المعنوية. هذه الطاقات المعنوية التي لا توصف تنعدم في الأمم التي تريد أن تصف كل شيء بمعادلات واضحة ، وهي منعدمة في فرنسا في الوقت الحاضر ، لآنّ الفرنسيين يرفضون كل ما هو خارج عن الحدود العقلائية ، ويجهلون حقيقة الأشياء التي تعجز الكلمات عن بيانها ».
« إن الذين يرغبون في إحراز الكمال المحدّد للإنسان يجب عليهم أن يتخلوا عن الغرور الفكري ، ويهتموا بتنمية الشعور الجمالي والحسن الديني في نفوسهم ، إن حب الجمال وحب الخالق لا يمكن الوصول اليه عن طريق معادلة رياضية ، ذلك أن الشعور الجمالي لا يحصل إلا بالجمال نفسه. إن حب الجمال يرفع صاحبه الى مستوى عال جداً ، لأنه يجذب قلوبنا نحو الشجاعة والإستقامة والجمال المطلق والله تعالى. وعلى أجنحة المعرفة فقط تستطيع النفس الإنسانية أن تصل إلى التكامل المنشود » (1).

____________
( 1 ) راه ورسم زندكى : 101.


 

( 136 )


الإيمان بالله :

لقد اهتم الإسلام في تعاليمه القيمة الى جميع الجوانب العقلائية والعاطفية للبشر. فدعا الناس من جهة الى التعقل والفتفكير ، وحثهم على العلم والمنطق... ومن جهة أخرى تحدّث عن تزكية النفس والتكامل الروحي. إن الدين الإسلامي يطفح بالقوانين والنظم العقلية القائمة على الاستدلال والبرهان ، ولكن ليس الإسلام يطفح بالقوانين والنظم العقلية القائمة على الاستدلال والبرهان ، ولكن ليس الإسلام كله عبارة عن المسائل العقلائية والحقائق الخاضعة للقياس ، إن روح الإسلام أسمى من العقل ، وأعلى من المحاسبات العلمية.
إن الإيمان بالله الذي هو الركيزة الأولى لدين الله يحصل بسلوك مرحلتين : الأولى عقلية وهي إثبات وجود الله ، والثانية أسمى من الأولى وهي الإيمان بالله. في المرحلة الأولى يستفيد القرآن الكريم من قوة العقل ويدعو الناس الى التفكر في خلق الله وفي النظام الدقيق الذي يسود الكون كي يصلوا من هذا الطريف الى وجود الخالق الحكيم العالم ، مستخدمين في ذلك الأدلة والبراهين العقلية والعلمية. أما الإيمان بالله فإنه لا يحصل بمجرد النظر في قانون العلّية بمنظار العقل فحسب ، بل يجب أن يسمو هذا الحساب العلمي إلى درجة أرقى ، وينفذ من العقل الى الروح ويستقر في القلب... عند ذاك تخرج هذه الحقيقة من صورة الأستدلال العقلي الجاف الى حالة من الشوق والاندفاع... الى الحب الإلهي الذي ينفذ في جميع ذرّات وجود الإنسان. يجب أن يتكامل ذلك المنطق العقلي في الضمير الباطن ويتحول الى إيمان حقيقي وإذعان لا يوصف.
وكتطبيق للفكرة المارّة الذكر نمثّل بالصلاة...

الصلاة والاستقرار النفسي :

الصلاة من الفرائض الإسلامية المهمة ، وتشتمل على الجانبين العقلي والاشراقي. أما الجانب العقلي المنظم فيتمثل في : الغسل ، الوضوء ، السواك ، المضمضة ، الاستنشاق ( من حيث النطافة ) ، إباحة ماء الوضوء واللباس ، ومكان الصلاة ( من حيث النظام المالي في المجتمع ) ، الترتيب بين أجزاء الصلاة ( من حيث


 

( 137 )


التعوّد على النظام ) ، عقد الجماعة ( من حيث تشديد أواصر الصفاء بين أفراد المجتمع ) ، القيام ، القعود ، الركوع السجود ( من حيث الحركات الرياضية المتزنة ) ، قراءة الفاتحة والسورة وسائر الأذكار ( من حيث الحركات الرياضية المتزنة ) ، قراءة الفاتحة والسورة وسائر الأذكار ( من حيث الإيحاءات النفسية )... وأمور أخرى مشابهة لها بجمعها كونها أمور محسوسة وظاهرة للعيان وقابلة للحساب العلمي أما روح الصلاة وحقيقتها فلا تدرك بالمحاسبة العلمية. إن روح الصلاة تتمثل في القرب من الله والارتباط الروحي بالخالق. الصلاة معراج المؤمن ومدعاة الصفاء الباطن ، تبعث الاستقرار والهدوء النفسي في نفس المصلي ، إنها أفضل الملاجيء المعنوية للمصلّين الخاضعين الخاشعين ، وإن الحالة الوجدانية والسمو النفسي الذي يحصل للمصلي لا يوصف بلسان العقل ، ولا يخضع للمحاسبة العلمية. وحقيقة الصلاة التي لا توصف هي التي تطهر الضمير الباطن من كل انحراف أو إجرام ، « إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر » (1).
إن طاقة الإيمان الجبارة ، والقدرة التي توجدها في نفس المصلي المؤمن عظيمة إلى درجة أنها تستطيع أن تسيطر على الغرائز الثائرة ، وأن تقف أمام الإفراط في الميول ، وتطهر الإنسان من الرجس والدنس ، وتمنعه من الإنحراف حتى في الحالات التي لا يوجد أحد يراقبه.

المناجاة :

إن الحالة الروحية للرجال الأصفياء ، والثورة الباطنية للعارفين ، ومناجاتهم بين يدي الله تعالى في ظلمة الليل البهيم حقائق لا توصف ولا تقاس ولكنها أساس أعظم التحولات الروحية والكمالات النفسية. فالشجاعة وضبط النفس ، وصفاء القلب ، وحب الخير ، والتضحية... كل ذلك يحصل في ظل الإيمان وبواسطة الاشعاع النفسي : « الصابرين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار » (2).

« تظهر الحاجة الى الله تعالى في صورة الدعاء والمناجاة فالدعاء عبارة عن

____________
( 1 ) سورة العنكبوت | 45.
( 2 ) سورة آل عمران | 17.


 

( 138 )

 

استغاثة ملهوفٍ ، واستعانة متأزمٍ ، ونشيد للحب ، وليس عبارة عن عبارات لا نفهم معانيها إن أثر الدعاء إيجابي في الغالب. وكأن الله يستمع لنداء الإنسان ويجيبه بصورة مباشرة... تقع حوادث فجائية ، يعود التعادل الروحي الى توازنه ، تفقد الحياة وجهها الخشن الظالم وتلين ، تنبع قدرة عجيبة من أعماقنا وتتصاعد. إن الدعاء يمنح الإنسان مقدرة لتحمل الآلام والمصائب وعندما تنعدم الكلمات المنطقية لتهدئة الانسان ، فإنه هو الذي يبرز ليبعث التظامن في نفسه ، ويمنحه القوة للوقوف أمام الحوادث ».
« تختلف دنيا العلم عن دنيا الدعاء ولكنهما لا تتباينان ، كما أن الأمور العقلائية لا تتباين مع الأمور غير العقلائية ، هذه المظاهر منهما خفيت عن الادراك فإننا يجب أننعترف بوجودها » (1).

لقد ورد التعبير في القرآن الكريم عن الحقائق الدينية غير المشهودة والتي لا تقبل القياس بكلمة ( الغيب ) ويجب على المؤمنين أن ينصاعوا لها : ( الذين يُؤمنون بالغيب ) (2).
لا شك في أن الشطر الأكبر من الأنظمة الدينية من عبادات ومعاملات وعقوبات قابل للإدراك العقلي والمحاسبة العلمية ، أما القسم الأصغر من الحقائق الدينية فهو فوق مستوى العقل... في حين أن قيمة جميع الأمور القياسية في الدين ترتكز على أساس الجانب غير القياسي. إن الأساس الأول والأهم للدين يتمثل في الإيمان بالله ، وبديهي أن ذات اگ تعالى ، والحالة النفسية التي تظهر في الإيمان به كلتاهما من ( الغيب ).. وهما تسموان عن القياس ، وترتفعان عن مستوى العقل. وكذلك أساس النبوة فإنه يرتكز على الوحي ، والوحي أيضاً حقيقة غير قياسية. كذلك المعاد يوم القيامة فإنه من أركان الإيمان في حين أن أعماقه وأبعاده لا تقاس.
إن من يحاول أن ينظر الى الدين من زواية العقل فقط ، ويرغب في أن يقيس جميع العقائد والأحكام الإسلامية بالمعايير العلمية البحث لم يدرك حقيقة الدين ولم يفهم شيئاً
____________
( 1 ) رواه ورسم زندكى ص 137.
( 2 ) سورة البقرة : 3.


 

( 139 )


عن الروحانية الإلهية والهدف الإسلامي المقدس. فكما أن الجمال الحقيقي للوحة زيتية فاخرة لا يمكن أن يقاس بالأصباغ المكونة لها ، أو التحليل الكيمياوي لمكوناتها ، كذلك الجمال الروحي للدين ونور الإيمان الباهر لا يمكن أن يخضع للتحليل العلمي ، أما بحثنا اليوم :

مشعل الإيمان الوضاء :

تبرز الفطرة التوحيدية والمشاعر الخلفية في ضمير الطفل قبل أن يكمل عقله ويتضح لإستيعاب المسائل العلمية ، ويكون مستعداً لتقبل الأساليب التربوية. على الوالدين أن يهتما بقيمة هذه الفرصة المناسبة ويستغلا تفتّح مشاعر الطفل ويقظة فطرته الإيمانية فيعملا منذ الطفولة على تنمية الإيمان بالله في نفسه ، هذا الأمر يجعل الطفل متجهاً في طريق الطهارة والإيمان قبل أن يتفتح عقله وينضج لاستيعاب الحقائق العقلائية وإدراك المسائل العلمية.
إن الإنسان يتجه الى خالق الكون بفطرته قبل أن يستخدم الأدلة العقلية لإثبات وجود الله. إنه لا حاجة للأدلة العقلية المحكمة في إيجاد الحسّ الإيماني في الطفل ، فالمعرفة الفطرية الموعدة فيه تكفي لتوجيهه نحو الإيمان بالخالق العظيم. ومن السهولة بمكان جعله انساناً مؤمناً بالاستناد الى طبيعته الفطرية. وما يقال عن عدم حاجة تنمية الإيمان في نفس الطفل الى الأدلة العقلية ، يقال عن عدم حاجة تنمية الصفات الفاضلة فيه... كالصدق ، والاستقامة ، والحنان ، وأداء الواجب ، والإنصاف ، ومساعدة الآخرين. فبالامكان تعويده على تلك السجايا الحميدة بمجرد توجيهه في طريقها.
إن التنمية الصحيحة للمشاعر أساس التكامل النفسي. والوصول الى السعادة والكمال المحدد للإنسان لا يكون بدون تنمية الإيمان والفضائل. علماً بأن ركائز ذلك يجب أن تصب في أيام الطفولة.

« يجب أن يتنبه الآباء والمربون الى أن الدين أعظم العوامل المساعدة في سيبل تربية الطفل ، وأن الإيمان مشعل وضاء ينير أحلك الطرق ، ويوقظ الصمائر ويعدل الإنحرافات » (1).

____________
( 1 ) ما وفرزندان ما ص 76.

 
 

اقسام مميزة

القرآن الكريم
القرآن الكريم
المزيد...
المكتبة الاسلامية
المكتبة الاسلامية
المزيد...
المكتبة الصوتية
المكتبة الصوتية
المزيد...
استفتائات
استفتائات
المزيد...

اوقات الصلاة